إن عرض قصة قصيرة جدًا يعد من أكثر الأشياء التي يفضل كل عاشق ومحب للأدب العربي على وجه الخصوص والأدب العالمي في العموم الاطلاع عليها، لذلك من خلال هذا الموضوع المقدم لكم من موقع شملول سنعرض لكم قصص مشوقة قصيرة لأبرز كتاب في تاريخ الأدب العربي الحديث وهو يوسف إدريس.
قصة قصيرة
يُعتبر فن القصص الصغيرة من الفنون التي ظهرت عند العرب قديمًا كمترجمات مثل ترجمة عبد الله بن المقفع لكتاب كليلة ودمنة، لكن لم يستطع العرب الابتكار في هذا النوع من الأدب إلى أن جاء القرن العشرين وبعد رحلات التعلم في الخارج التي زادت في هذا الوقت.
بدأ العرب بابتداع قصصهم القصيرة النابعة من واقعهم الخاص ومن مشاهد عاشوها بأنفسهم مثل تأليف المنفلوطي لقصة الحرية وتأليف الرافعي لقصة الصغيران ويوسف إدريس لقصة نظرة وغيرهم.. ومن خلال الفقرات التالية سوف نعرض نماذج مختلفة لقصة قصيرة مفيدة وشيقة.
قصة نظرة ليوسف إدريس
يُعد يوسف إدريس واحدًا من رواد فن الحكايات القصيرة في مصر على وجه الخصوص وفي العالم العربي بشكل عام، وتُعد قصة نظرة ليوسف إدريس واحدة من أبرز قصصه ونص القصة هو..
(كان غربيًا أن تسأل طفلة صغيرة مثلها إنسانًا كبيرًا مثلي لا تعرفه.. في بساطة وبراءة أن يعدل من وضع ما تحمله، وكان ما تحمله معقدًا حقًا، ففوق رأسها تستقر “صينية بطاطس بالفرن” وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة.
كان الحوض قد انزلق رغم قبضتها الدقيقة التي استماتت عليه ، حتى أصبح ما تحمله كله مهددًا بالسقوط ولم تطل دهشتي وأنا أحدق في الطفلة الصغيرة الحيرى، وأسرعت لإنقاذ الحمل وتلمست سبلا كثيرة و أنا أسوي الصينية فيميل الحوض، وأعدل من وضع الصاج.
فتميل الصينية .. ثم اضبطهما معًا فيميل رأسها هي، ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه ولست أدري ما دار في رأسها.
فما كنت أرى لها رأسها وقد حجبه الحمل.. كل ما حدث أنها انتظرت قليلًا لتتأكد من قبضتها، ثم مضت وهي تغمغم بكلام كثير لم تلتقط أذني منه إلا كلمة “ستّي” و لم أحول عيني عنها، وهي تخترق الشارع العريض المزاحم بالسيارات، ولا عن ثوبها القديم الواسع المهلهل الذي يشبه قطعة القماش الذي ينظف بها الفرن، أو حتى عن رجليها اللتين كانتا تطلان من ذيله الممزق كمسمارين رفيعين.
تابع قصة نظرة ليوسف إدريس
(راقبتها في عجب وهي تنشب قدميها العاريتين كمخالب الكتكوت في الأرض، وتهتز وهي تتحرك، ثم تنتظر هنا وهناك بالفتحات الصغيرة الداكنة السوداء في وجهها، وتخطو خطوات ثابتة قليلة، وقد تتمايل بعض الشيء.. ولكنها سرعان ما تستأنف المضي.
راقبتها طويلًا حتى امتصتني كل دقيقة من حركاتها، فقد كنت أتوقع في كل ثانية أن تحدث الكارثة.. وأخيرًا استطاعت الخادمة الطفلة أن تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار.
استأنفت سيرها علي الجانب الآخر، وقبل أن تختفي شاهدتها تتوقف ولا تتحرك، وكادت عربة تدهمني وأنا أسرع لإنقاذها، وحين وصلت كان كل شيء على ما يرام، والحوض والصينية في أتم اعتدال.
أما هي فكانت واقفة في ثبات تتفرج.. ووجها المنكمش الأسمر يتابع كرة من المطاط يقذفها أطفال في مثل حجمها، وأكبر منها، وهم يهللون ويصرخون ويضحكون .
لم تلاحظني، ولم تتوقف كثيرًا، فمن جديد راحت مخالبها الدقيقة تمضي بها، وقبل أن تنحرف، استدارت على مهل، واستدار الحمل معها، وألقت على الكرة والأطفال نظرة طويلة ثم ابتلعتها الحارة).
التعليق الأدبي على قصة نظرة
سنتناول في هذا التعليق الأدبي توضيحًا لبعض المفردة التي قد تبدو غريبة على الأسماع وبعض الألوان البيانية والجماليات الموجودة في القصة.
يبدأ كاتبنا قصته بنظرة على طفلة وصفها بأنها كالكتكوت الصغير وتلك كناية عن صغر حجم تلك الفتاة، وكان غريبًا أن تسأل فتاة في مثل عمرها رجل مثله في أن يعدل من على رأسها الصينية.
وصف يوسف إدريس الصينية المحمولة على رأسها بلفظة (المعقدة) للدلالة على كثرة الطبقات التي تحملها تلك الفتاة الصغيرة على رأسها متشبثة بها كمن يتشبث بآخر طوق نجاة له، وأفرد الكاتب محتويات ما تحمله الفتاة فوق رأسها قائلاً.
(ففوق رأسها تستقر “صينية بطاطس بالفرن” وفوق هذه الصينية الصغيرة يستوي حوض واسع من الصاج مفروش بالفطائر المخبوزة) وكلمة الصاج هي كلمة مصرية تعني الحديد المسطح الذي تصنع منه هياكل السيارات.
يستمر الكاتب في حكيه وسرده عن أن دهشته لم تنفك وهو يحاول أن يعدل صينية صعبة عليه حملها بعزيمة فتاة تمسك الحمل بغاية الدقة.. وتلك دلالة لغوية على أن الفتاة كانت تخشى ما هو سيء إن حدث للحمل الذي تحمله مكروه.
عامل الكاتب الفتاة الصغيرة كفتاة مثل أحفاده الصغار بل وأكثر شفقة والدلالة هي (ولكنني نجحت أخيرا في تثبيت الحمل، وزيادة في الاطمئنان نصحتها أن تعود إلى الفرن، وكان قريبًا، حيث تترك الصاج وتعود فتأخذه) لأنه بعد عناء من تعديل الحمل على رأسها كان رأسها لا يتحمل مثل هذا الحمل وقد تسقط به أرضًا.
تابع التعليق الأدبي على قصة نظرة
لكن كان التغير الذي فعلته الفتاة الصغيرة هو نظرتها وتمهلها للحظة لتتأكد على أن الحمل كان مستقرًا فما لبثت أن ذهبت متمتمة ببعض الكلمات التي لم يسمع منها إدريس إلا كلمة (ستي) وهي كلمة مصرية حُرفت من (سيدتي) التي تدل على كناية عن خوف الطفلة الصغيرة من عذاب السيدة التي تعمل عندها كخادمة.
يصف يوسف إدريس الطفلة بطلة قصته بأن قدميها كالمسمارين النحيفين وأيضًا وصف عينيها بالثقبين الأسودين وهما كنايتين عن ضعف تلك الفتاة الجسدي وأنها تعاني من سوء التغذية ويدل أيضًا على قسوة الطريقة التي تعاملها بها المرأة التي تخدم عندها.
كانت تلك الطفلة تخذل الكاتب في كل حركة تقوم بها فكل حركة تقوم بها وصفها الكاتب أنها (تخترق الشارع المزدحم في بطء كحكمة الكبار) وفي هذه الجملة إيجاز بحذف الفاعل للعلم به وكناية عن رزانة عقل تلك الفتاة ورجاحته.
لم تلاحظ الفتاة وجود الكاتب في الطريق لكن ما شد انتباه الكاتب هو نظرة الفتاة إلى أطفال في عمرها يلعبون الكرة مع بعضهم البعض ونظرة الحسرة في وجهها وفي هذا تشبيه وصورة بيانية مركبة بمزج الحالة المأسوية للفتاة مع فرح من في سنها.
يقول الكاتب (ثم ابتلعتها الحارة) في هذه الجملة استعارة مكنية.. حيث صور الكاتب الحارة بشخص يبتلع أو تبدو تصويره للفتاة بفريسة للحارة التي تسكن فيها للدلالة على أن السيدة التي تعمل عندها الفتاة في تلك القصة امرأة متسلطة.
القراء الذين اضطلعوا على هذا الموضوع قد شاهدوا أيضًا:
قصة المرتبة المقعرة ليوسف إدريس
لم يكن يوسف إدريس كاتبًا للقصة الصغيرة المختصرة بشكلها التراجيدي فقط بل كان يكتب قصصًا ذات طابع هزلي لكنها تحمل معنى في داخلها أيضًا.. وتُعد تلك القصة من ضمن تلك القصص.
نص القصة هو (في ليلة الدخلة والمرتبة جديدة وعالية ومنفوشة، رقد فوقها بجسده الفارع الضخم، واستراح إلي نعومتها وفخامتها، وقال لزوجته التي كانت واقفة إذ ذاك بجوار النافذة: انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
نظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير.
فلأنم يومًا إذن، ونام أسبوعًا، وحين صحا كان جسده قد غور قليلًا في المرتبة. فرمق زوجته وقال: انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير.
فلأنم أسبوعًا إذن، ونام عامًا، وحين صحا كانت الحفرة التي حفرها جسده في المرتبة قد عمقت أكثر، فقال لزوجته: انظري.. هل تغيرت الدنيا؟ فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير.
فلأنم شهرًا إذن، ونام خمس سنوات، وحين صحى كان جسده قد غور في المرتبة أكثر، وقال كالعادة لزوجته: انظري.. هل تغيرت الدنيا؟
فنظرت الزوجة من النافذة ثم قالت : لا.. لم تتغير.
فلأنم عامًا إذن ونام عشرة أعوام، كانت المرتبة قد صنعت لجسده أخدودًا عميقًا، وكان قد مات وسحبوا الملاءة فوقه فاستوي سطحها بلا أي انبعاج، وحملوه بالمرتبة التي تحولت إلى لحد وألقوه من النافذة إلى أرض الشارع الصلبة.
حينذاك وبعد أن شاهدت سقوط المرتبة اللحد حتى مستقرها الأخير، نظرت الزوجة من النافذة وأدارت بصرها في الفضاء وقالت :يا إلهي! لقد تغيرت الدنيا).
التعليق الأدبي على القصة
يكون التعليق الأدبي على هذه القصة بصورة مبسطة فقط لإيضاح بعض المعاني الغريبة على من ليسوا بمصريين وإبراز الألوان البيانية والمحسنات البديعية في القصة.
يسرد يوسف إدريس قصته بصورة أقرب إلى القصص التي تحكى على مقاهي القاهرة فيحكي فيها حالة المرتبة العالية المنقوشة في دلالة على أنها ذات قيمة غالية وجودة عالية.. وتدور أحداث تلك القصة بعدما استراح الزوج على مرتبته الجديدة في نوع من المونولوجات بينه وبين زوجته.
يبدأ المونولوج الأول عارضًا حديث الزوج وعزمه على النوم ليوم كامل في حالة لم تتغير الدنيا والشاهد قوله (لأنانم يومًا) لأن اللام هنا هي لام التوكيد أو في قول آخر هي لام القسم التي تأتي مع الفعل المضارع للدلالة على عزم الشخص القيام بفعل شيء ما.
تكثر هذه اللام في القصة ككل للدلالة على عزم الزوج على النوم ولا شيء سواه ولا حتى أنت يتكفل برؤية أحوال الدنيا من النافذة.. والمنولوج الثاني يعتزم فيه الزوج على النوم لأسبوع والثالث لشهر والرابع لسنة والمونولوج الخامس والأخير عقد عزمه على النوم لمدة خمسة سنوات.
يصف الكاتب هنا حالة المرتبة (المرتبة هي الفراش لكن بالعامية المصرية) تدريجيًا بدأ من التقوس ثم التقعر ثم الغور وكلاً منها أكثر عمقًا في لغة العرب حتى انتهى كاتبنا إلى أنها أصبحت برقاقة الكفن حتى أصبحت فيما بعد كفنه أو كما قال الكاتب لحده وتلك دلالات لفظية على طول مدة نومه إلى أن مات.
يوجهه الكاتب في تلك القصة بضرورة العمل من أجل تحسين الحياة وألا يكون مثل صاحبنا في القصة لا تلاحظ زوجته تغير الحياة إلا بعدما رأت جثة زوجها تلقى من نافذتها.
بذلك نكون قد قدمنا لكم في السطور السابقة قصة قصيرة جدًا بعنوان قصة نظرة وأخرى بعنوان المرتبة المقعرة وكليهما ليوسف إدريس أحد رواد الأدب القصصي في الوطن العربي، بالإضافة إلى أننا ذكرنا التعليق الأدبي على القصتين، ونرجو أن نكون قد قدمنا لكم الإفادة والنفع.